أنا لا أعيش حياتي… بل أعيش حياة أبنائي
قد نسمع مثل هذه العبارة كثيرًا من آباء وأمهات أفنوا أعمارهم وحياتهم في سبيل تربية أبنائهم، هي تعبير صادق عن التضحية والحب والمودة، لكنها في أحيان كثيرة تحجب خلفها سلوكيات تربوية تنتهك خصوصية الأبناء، وتخنق حريتهم، خصوصًا في مرحلة المراهقة ولا يدركها الوالدان إلا متأخرًا.
إن إدراك المربي للهدف من التربية يساعده في تحديد الوسائل والطرق والأساليب التي يسير عليها في التربية، والهدف الأسمى من التربية هو تنمية قدرات الفرد واطلاق امكانياته وتقوية شخصيته إلى أقصى حد تسمح به قدراته.
إن التربية لا تعني العيش بدلًا من الأبناء، بل تعني تمكينهم من العيش الناضج المستقل، ومن أعظم صور التربية في الإسلام التمكين مع التوجيه، كما قال الله تعالى في قصص الأنبياء في القران الكريم، فمثلًا قال –جل وعلا– عن موسى عليه السلام :”وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا” [القصص:14]
قال الطبري في تفسيره : “استوى أي تناهى شبابه وتم خلقه واستحكم اتيناه حكما أي الفقه والعقل والعمل” (تفسير الطبري )، فلم يُعطَ الحكمة والعلم إلا بعد أن “استوى”، أي بلغ النضج.
إن أعظم ما افترضه الله علينا تجاه نعمة الأبناء أن نقوم على أمر تربيتهم؛ ولذا فإننا حينما نتحدث عن تربية الأبناء فإنما نتحدث عن أمانة عظيمة ومسؤولية كبيرة، قال صلى الله عليه وسلم : “كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا” رواه البخاري.
وقال تعالى : “یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ ” (التحريم:6) ،”ووقاية الأهل [والأولاد]، بتأديبهم وتعليمهم” (تفسير السعدي)
فالتربية هي غرس القيم والأخلاق والعلم في نفوسهم حتى تشتد قوتهم، ويكونوا قادرين على اتخاذ القرار ثم إعطائهم الفرصة في الاختيار في جميع شؤونهم، مما يعزز الثقة في نفوسهم والقوة في إعطاء رأيهم دون خجل أو تردد أو الاعتماد على الوالدين، لأن النضج يخلق عالمًا خاصًا يحتاج إلى احترام واحتواء لا اقتحام وتحكم.
ولكي يتحقق للوالدين أن يعيشا حياتهم وحياة أبنائهم بشكل سليم ينبغي أن تراعى بعض الأمور:
- الحدود التربوية: احترام لا تَحكُّم.
لكل علاقة ناجحة حدود، وفي العلاقة بين المربّي والمراهق، تُعدّ الحدود النفسية والعاطفية والعقلية والاجتماعية حجر أساس في بناء الثقة؛ وذلك بأن يعرف المربي متى يتحدث ومتى يصمت، متى يتدخل ومتى ينسحب، هو فنٌّ لا يقل أهمية عن التوجيه نفسه.
قال تعالى :(ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ ) (سورةالنحل: 125)
فالمربي يعيش حياة أبنائه بمعنى أن يكون قريبًا منهم عاطفيًا، حاضرًا في أذهانهم لا متسلطًا على تفاصيلهم، ومرحلة المراهقة أحوج ما تكون إلى الحكمة والتوجيه.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم أعطانا أروع مثال في احترام خصوصية الأبناء، فقد قال: “مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع” (أبو داود).
فيراعى أن يكون التوجيه بشكل تدريجي يحترم مراحل النمو بكل خصائصه ويؤسس للخصوصية في سن مبكرة. - الحماية دون سيطرة
هناك خيط رفيع بين الحماية وبين السيطرة، فالتربية ليست أن نرسم طريقهم خطوة بخطوة، بل أن نكون خلفهم حين يحتاجون، لا أمامهم لنقودهم بالقوة.
ومراقبتهم عن بعد دون ملاحقة كالفلاح الذي يراقب نضج الزرع فلا يجنيه قبل أوانه، وفتح باب الحوار لاباب التحقيق، وتركهم يخوضون التجارب للتعلم، فالنضج والاستقلال يأتيان بالتجربة والتعلم، لا بالتحكم.
1- متى تكون التربية اقتحام لا احتواء؟
حين:
- نفتّش هواتفهم ونراقبهم دون إذن.
- نقرر مستقبلهم بدلًا عنهم.
- نقارنهم بغيرهم أو نحبطهم عند الخطأ.
- نعيش في قلق دائم يمنعهم من تجربة الحياة.
مثال واقعي:
أم كانت تتابع تطبيقات ابنتها المراهقة يوميًا، دون علمها، وعندما اكتشفت الفتاة ذلك، بدأت تخفي عنها مشاعرها وتكذب لتحتفظ بخصوصيتها، فقدت الأم ثقة ابنتها التي كانت تبنيها معها منذ سنوات… كل ذلك بدافع “الخوف والحماية”.
ضوابط احتواء المربي للأبناء:
أ- على المربي الاستماع قبل التوجيه
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنصت للأطفال والصغار، ويُشعرهم بأهميتهم، فأول جسر لبناء الثقة: الإنصات للمراهق دون حكم.
ب- شاركهم دون أن تفرض نفسك.
لا تكن ظلًا ثقيلًا في كل خطوة، كن حاضرًا في الخلفية، لا متقدمًا على المشهد.
ج- اضبط فضولك.
لا تبحث في أسرارهم، بل علّمهم الأمانة. قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا…” [النور:27]، فإذا كان الاستئذان في البيوت واجبًا، فكم هو واجب في خصوصيات النفس!
د- الثقة بقدرتهم على التعلّم.
عدم انتقادهم عند كل خطأ، وتركهم يتعلمون من التجربة، ففي هذا صقل لشخصياتهم.
ه- ذكّر نفسك دومًا: هم ليسوا أنت.
لا تسقط آمالك أو طموحاتك عليهم، هم خُلقوا لعصر مختلف، وتحديات مختلفة
ختامًا “أعيش حيوات أبنائي” عبارة عظيمة إن كانت تعني الحب والدعم، لكنها تصبح خطيرة إذا تحولت إلى مُصادرة الحياة.
التربية الحقيقية هي أن نحبهم بلا سيطرة، ونوجّههم بلا خنق، ونمنحهم الأمان ليكونوا “هم”، لا نسخة أخرى منّا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:”ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم”.
وهذا هو جوهر الحكمة التربوية: أن نمنح أبناءنا الحياة، لا أن نعيشها بدلًا عنهم.
