الانفتاح الثقافي

فريق بانيات
فريق بانيات 26 مشاهدات 10 دقيقة للقراءة

د.سعود الشمري.

المعرفة الإنسانية هي نتيجة لأديان ومعارف وتجارب وحضارات متنوعة عبر التاريخ. كل أمة تضيف من مكونها الثقافي إلى هذا التراكم المعرفي ما توصلت إليه من حق أو باطل، من فشل أو نجاح، حتى تكوَّن هذا التراث الإنساني الذي تتعاطى معه البشرية اليوم، فتقبله تارة وترفضه أخرى، تبني عليه تارة وتنقضه أخرى، وتبني على أنقاضه أشكالاً أخرى من العلوم والتجارب والخبرات.

ومن أهم الإضافات التي نقلت البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ما أضافته الأديان السماوية الصحيحة. فالله، الذي خلق الخلق، لم يتركهم سدى، بل شرفهم بأن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، حتى ختمت هذه الرسالات بالرسالة الخاتمة، رسالة نبينا محمد ﷺ، فقد أكمل الله به الدين، وأتم به المنة، وأقام به الحجة على العالمين.

فالدين يُعتبر أهم مكونات ثقافات الأمم والحضارات. كل حضارة تهيمن وينتشر نفوذها وقوتها، ينتشر معها دينها ومعتقداتها بالإضافة إلى بقية مكونات الثقافة كاللغة، والأخلاق، والعادات، والتاريخ، واللباس وغيرها من المكونات الثقافية. فالأمم المغلوبة يستهويها تقليد الأمم الغالبة، والأمم الضعيفة تكون مسلوبة ثقافيًا أمام الأمم القوية، فتُعظِّم لغتها وتاريخها وعاداتها ودينها، حتى تكون مهزومة في معركة الفكر والثقافة قبل هزيمتها في معركة الحرب، بسبب القابلية للهزيمة، ومن ثم القابلية للاستعمار.

ولذلك، عندما بُعث النبي ﷺ، اهتم بتميُّز هذه الأمة واستقلالها، واهتدائها بالهدى والنور الذي شُرِّفت به، فنهى عن التشبه بالكفار، ومشابهتهم فيما يختصون به من دين، ولغة، ولباس، وعادات تخصهم.وأكد على أهمية الاقتداء به ﷺ،، بخلفائه الراشدين، في قوله ﷺ، : “فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ”،1 والاقتداء بأصحابه من بعده، في قوله ﷺ، : ” وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ : ما أَنا علَيهِ وأَصحابي”،2 كما النبي ﷺ،على حث على التشبه بالأنبياء قبله في قوله ﷺ،: “ذلكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، وهو أفْضَلُ الصِّيَامِ”3 ، وبحوارييهم كما في قوله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ” [ الصف: 14].

وسبب النهي عن التشبه بالكفار هو أن التشبه الظاهر يؤدي إلى التشبه في الباطن. وبالمثل، فإن الحث على التشبه بمن يحبهم الله، ومن يحبون الله، له أثر كبير على باطن الإنسان وسلوكه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة”4.

ومن هذا الباب نُهي عن الاطلاع على كتب أهل الكتاب، حيث قال النبي ﷺ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما رأى معه قطعة من التوراة: “أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية. ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني.”5

واستقر عمل أهل العلم في مسألة التعامل مع كتب أهل الكتاب؛ بأن يقبلوا ما وافق الكتاب والسنة، ويردّون ما خالفها، ويتوقفون فيما لم يرد فيه موافقة ومخالفة في الكتاب والسنة، وكان لهذه المنهجية أثر علمي في منهجية التعامل مع الإسرائيليات، وعلى منهجية التعامل مع الوافد الثقافي عند موجة الترجمة في العهد العباسي. كما كان لها أثر عملي حمى الفاتحين من بقايا أديان الأمم المهزومة، فكانت منهجية الاكتفاء بالوحي والاستعلاء بالحق واقية من ثقافات وفلسفات وأديان الأمم التي فتحوا بلادها. بل إن استعلاءهم واستغناءهم واكتفاءهم كان السبب الأكبر لدخول شعوب كاملة في الإسلام.

ومع هذا الاكتفاء بالوحي والاستعلاء بالحق، إلا أنهم استفادوا من منتجات الحضارات الأخرى، فالحكمة ضالة المؤمن. ولهم قدوة في عمل النبي ﷺ، فقد استفاد من خبرة الفرس في حفر الخندق، واستخدام الخاتم للمراسلات.

ومما سبق، يتبين لنا أن النبي ﷺ تعامل مع الثقافات الأخرى بأكثر من منهجية:

الأولى: منهجية المنع التام، كما فعل حين منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الثانية: منهجية الاستفادة والانتفاع، مثل حفر الخندق واتخاذ الخاتم.

والجمع بين ذلك، أن المنع العام كان فيما يتعلق بما له علاقة بمصادر التشريع، ومناهج الاستدلال عند التعامل مع مصادر الوحي، وكذلك في التخلق بأخلاقهم، والتشبه بهم فيما يخصهم من اللباس، والعادات، والأخلاق. 

أما الانتفاع، فيكون بقدر ما يحتاجه الإنسان مما هو من المشترك الإنساني، الذي ليس له علاقة بمصادر التشريع أو التشبه بالأخلاق، والعادات.

ولذلك، كان منهج أهل السنة والجماعة من علم الكلام، والمنطق، وما تُرجم، وأُدخل على العلوم الإسلامية في عصور الترجمة واضحًا وصارمًا. 

فقد كان لهذا علاقة مباشرة بمصادر التلقي ومناهج الاستدلال، مما أدى إلى معركة فكرية ضخمة بين أهل السنة والمعتزلة، كما ظهر في فتنة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- مع المعتزلة، وموقف ابن تيمية -رحمه الله- من الأشاعرة والفلاسفة.

أما في العصر الحديث، فإن المعركة أكثر ضراوة لعدة أسباب منها:

1. اجتياح الاستعمار لغالب حواضر العلم الإسلامي في بدايات القرن الماضي، وما ورّثه من أنظمة الحكم والتحاكم، ومضامين التعليم والإعلام.

2. هيمنة الغرب العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، وتبعية بقية العالم لها بعد حقبة الاستعمار العسكري.

3. ثورة وسائل الاتصالات الحديثة، وبداية مرحلة العولمة.

4. سهولة السفر.

5. التعليم الأجنبي.

6. سهولة وسائل التواصل الإلكترونية الحديثة.

هذه الأسباب أدت إلى حالات من الانبهار، والهزيمة، الثقافية، والتبعية المُذلّة للغرب في تصوراته، وأفكاره، وعاداته، وقيمه، ولغته، وكل مقومات حضارته وثقافته. 

وقد جعلت البعض يعتقد أن التقدم يكمن في تبني كل ما أنتجته الحضارة الغربية، سواء كان غثًا أو سمينًا، حقًا أو باطلًا، ضارًا أو نافعًا.

والرد على هذه المقولة هو أن الله أودع في هذا الكون سننًا كونية، وأنزل في الوحي سننه وأوامره الشرعية. 

فمن سبق وتفوق في استثمار، وفهم سنن الله في الكون يُقتدى به في هذا المجال، ويُستفاد منه في هذا الموطن؛ لأن ذلك من الخلق الذي خلقه الله، ومن فهم سننه الكونية. 

وما تقدموا إلا بسبب بذلهم للجهد العظيم في استثمار ما أودعه الله سبحانه، فإن سنن الله في الكون لا تحابي أحدًا.

أما ما يتعلق بالشرع والوحي وما أمر الله به، فهم أبعد الناس عنه، ولم يُؤت المسلمون إلا من خلال تخلفهم عن أمر الله؛ بطلب العلم والمعرفة والنظر في الأنفس والآفاق، والضرب في الأرض. 

فلما ضيعه المسلمون كانت القوة، والتقدم من نصيب غيرهم، ولو عاد المسلمون إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم، لعلموا أنها لا تتعارض مع العلم والمعرفة والأخذ بأسباب القوة في كافة مجالاتها.

أما أن نترك شرع الله وأمره؛ لأن الغرب تفوقوا في أمور الدنيا بسبب تركهم، وتنحيتهم لدينهم الباطل، فهذا من الجهل العظيم. 

فهم لم ينحوا دينهم عن الحياة إلا لكونه من معوقات العلم، والمعرفة، والتقدم، وعمارة الأرض، وهذا لا ينطبق على ديننا الذي يحث على العلم والمعرفة.

كما أن الغرب لا يزال يعاني الويلات أخلاقيًا، واجتماعيًا، ودينيًا بسبب بعده عن الوحي والهدى والحق، حتى وصل إلى مرحلة البهيمية في بعض مجالات الحياة.

فالاقتداء بالغرب ينبغي أن يكون في مكامن قوته ونهضته التي لا تعارض محكمات الكتاب والسنة، وذلك من خلال الأخذ بالأسباب الحسية المشروعة. أما الاقتداء به في مكامن ضعفه وانحرافه وضلاله وزيغه وحمقه، فهذا غير مقبول.

ومن المؤسف أنه عند الحديث عن الانفتاح الثقافي، ينحصر الحديث غالبًا حول أوجه استفادتنا من الآخر، ولا يُتطرق للحديث عن انفتاح الآخر على ثقافتنا وديننا وقيمنا وأخلاقنا وبقية مكونات ثقافتنا الإسلامية. فنحن أمة رسالة، وورثة الرسالة الخاتمة، وعلى عواتقنا مسؤولية كبيرة في هدايتهم إلى الحق والهدى والنور، وإنقاذهم من الباطل والضلال والظلمة، لما نملكه من الحق الخالص المبني على الوحي. ولا يمكن ذلك إلا بانفتاحهم علينا، وسهولة وصول رسالتنا إليهم بنفس الأدوات والوسائل التي وصلت إلينا ومن خلالها ثقافتهم وقيمهم.

ولا يتأتى ذلك إلا عند استحضار عدة نقاط مهمة:

1. اليقين بصدق خبر الرسول ﷺ، كتابًا وسنة.

2. اليقين بأن ما شرع الله لا يتعارض مع ما خلق.

3. اليقين أن مصدر الكتاب المسطور (القرآن) هو نفس مصدر الكتاب المنظور (الكون).

4. الاستعلاء الإيماني المنطلق من رسوخ العقيدة الإسلامية، وصحة تصوراتها للكون والحياة والإنسان.

5. الاكتفاء بالوحي، واليقين بأن فيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته ومعاده.

6. التفاعل مع المشترك الإنساني من العلوم النافعة مع الاعتزاز بالهوية الإسلامية، والمحافظة عليها.

7. تفعيل الانفتاح الثقافي الإيجابي، الذي يحمل رسالة الحق إلى الخلق.

8. ألا يكتفي المسلم بخطاب الأمة عن خطاب الأمم، فعليه أمانة كبرى في تبليغ الرسالة، فهم حملة الرسالة الخاتمة على نبيها أفضل الصلاة وأتم التسليم.


  1. أبو داوود 4607. ↩︎
  2. الترمذي 2641 ↩︎
  3. البخاري 1976 ↩︎
  4. اقتضاء الصراط المستقيم (1\221) ↩︎
  5.  رواه أحمد (14736)، وحسنه الألباني في ” إرواء الغليل ” (6/34). ↩︎

شارك هذه المادة
ترك التعليق