التوازن الثقافي

فريق بانيات
فريق بانيات 31 مشاهدات 8 دقيقة للقراءة

د. سعد بن دبيجان الشمري

التوازن من سنن الله في الكون، قال : ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، قال الطبري رحمه الله ” إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه”،  وهذا القدر شامل لكل مناحي الحياة. فالمطر لا ينزل إلا بقدر معلوم، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ [المؤمنون:18]. والرزق لا ينزل إلا بقدر معلوم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى:27]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر:21]. بل إن حركة الأكوان وأفلاكها موزونة مقدرة بقدر بحيث لا تختل ولا تتقدم ولا تتأخر ولا تزيد ولا تنقص، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:40]. وهذا التقدير الدقيق لا يكون إلا من عليم حكيم، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [الأنعام:96]. ولذلك وضع الله الموازين التي تحفظ لهذا الكون اتزانه، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن:7،8].

وكما أن التوازن سنة من سنن الله في خلقه، فهو كذلك سنة مطردة في شرعه وأمره. فعلم الله وحكمته كما شملت أفعاله وتدبيره وخلقه، شملت أيضًا أمره وتشريعه. ولذلك وضع الله الموازين، وأمر بالعدل، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن:9].

بل جعل الله سبحانه أحد أهم صفات دينه الذي أنزله على نبيه ﷺ الاتزان، فقال تعالى: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام:161]. فقد وصف دينه بأنه دين قَيِّم، ووصف صراطه بالاستقامة، والاستقامة شكل من أشكال الاتزان، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:7].

كما جعل هذه الأمة أمة وسطاً باتزانها وعدلها، فهي بتلك الصفة تستحق مقام الشهادة على الأمم، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

ولذلك اتسمت الثقافة الإسلامية بالتوازن، حتى صارت خصيصة من خصائصها وسمة من سماتها التي تميزها عن غيرها من الثقافات. وللتوازن الثقافي عدة أشكال وصور، نعرض لها من خلال عرض أمثلتها وصورها في الثقافة الإسلامية:

  • التوازن بين الدنيا والآخرة.

من التوازنات المهمة التي ميزت الثقافة الإسلامية التوازن بين الدنيا والآخرة، بإنزال كل واحدة منهما في مكانها المناسب، والذي ينطلق من حقيقتها ومكانتها التي أنزلها الله إياها، قال الله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64]، قال ابن جرير رحمه الله: “وإن الدار الآخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها”، ولذلك استحقت أن تكون لها المركزية والهيمنة على الحياة الدنيا، بعكس المفهوم الغربي للحياة الذي يجعل من الحياة الدنيا أحد مركزيات فكره المادي.

ومركزية الحياة الآخرة في الثقافة الإسلامية تعين المسلم على عمارة الأرض بما يرضي الله تعالى، وأن عمارة الدنيا هي مزرعة ثمارها ونتاجها يناله المسلم في الآخرة. كما من المهم ألا تؤثر مركزية الحياة الآخرة على القيام بعمارة الأرض في الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].

  • التوازن بين الفرد والجماعة.

اختلفت ثقافات العالم بين التركيز على الفرد أو الجماعة. فقامت الفكرة الشيوعية على تعظيم الجماعة على الفرد، وإلغاء الملكية الفردية، بعكس الحضارة الغربية القائمة على تعظيم الفرد وتعظيم المصلحة الفردية على حساب المجتمع. بينما تجد أن الثقافة الإسلامية في كافة مجالاتها متوازنة بين الفرد والمجتمع. فقد شرع الله عبادات فردية ذاتية كأعمال القلوب، والذكر، وغيرها من شعب الإيمان، وشرع عبادات جماعية لا تتم إلا بتشارك الجماعة وقيامهم بها جميعاً، كصلاة الجمعة والجماعة، والحج. وفي باب الحقوق والواجبات بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، هناك الحقوق والواجبات على الفرد وعلى المجتمع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حق حقه”، حتى نعطي كل ذي حق حقه بتوازن، وعدل.

  • التوازن في بناء الشخصية الإسلامية.

أما في بناء الشخصية الإسلامية، فتميزت الثقافة الإسلامية بتوازنها في بناء جميع المجالات، فشملت المجال العقلي والمعرفي، والمجال السلوكي والأخلاقي، والمجال التعبدي، والمجال البدني والصحي، وغيرها من المجالات. ومن الأمثلة على ذلك:

  1. في المجال العلمي والمعرفي: كان أول آية نزلت في كتاب الله، وأول وحي سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]. وبين الله مكانة أهل العلم فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]. النصوص في الحث على العلم والمعرفة، والسير في الأرض، وبيان مكانة أهل العلم في الأمة، أكثر وأشهر من أن تذكر وتبين.
  2. في المجال السلوكي، والأخلاقي يوضحه بجلاء ما ذكره النبي  من أنها أحد مقاصد بعثته ؛ فقال: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وقال  : ” أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً”، وقوله : “إنَّ المُؤمِنَ ليُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصَّائمِ القائمِ.”
  3. في المجال العبادي، ظهر التوازن بين العبادات الذاتية اللازمة؛ كالذكر، والصلاة، والعبادات المتعدية؛ كالحسبة، والجهاد، والدعوة، والصدقة. كما ظهر التوازن في تنوع العبادات؛ فمنها ما هو بدني كالصيام، ومنها ما هو مالي كالزكاة، ومنها ما يجمع بين المالي والبدني كالحج.

وفي كافة مجالات الحياة، ظهر التوازن والشمول في بناء الشخصية الإسلامية، حتى كانت شخصية متكاملة، سوية، تستحق الاستخلاف في الأرض، وتستحق تحمل الأمانة، وتستحق مكانة الشهادة على الأمم.

  • التوزان بين الأصالة والمعاصرة.

أحد أهم تجليات التوازن المنهجية؛ وهو التوازن بين الأصالة في الرجوع إلى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، والاقتداء بسنة النبي ﷺ وسنة الخلفاء الراشدين، والقرون المفضلة، من خلال الاعتماد على مصادر التلقي الشرعية، والتعاطي معها بمناهج الاستدلال العلمية المعتبرة. 

كما يتجلى التوازن في التعاطي مع معطيات العصر، بالاستفادة من العلوم المعاصرة، وتوظيفها فيما يعود على المسلم بالنفع والخير، ويحقق مقصد التعبد لله في عمارة الأرض.

  • ثمار التوازن.

لهذا التوازن الذي تميزت به الثقافة الإسلامية ثمار عديدة؛ منها:

  1. موافقتها للفطرة، وانسجامها مع الخلقة التي خلق الله الناس عليها؛ لأن مصدرها هو الخالق الفاطر .
  2. تحقيقها لعمارة الأرض، وفق المفهوم الإسلامي، فالأرض لا تعمر بالماديات فقط، وإنما تعمر بذكر الله  : ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18] 
  3. موافقة سنن الله في الكون، والانسجام مع سننه في الأنفس والمجتمعات، ومواكبتها والسير في ركابها.
  4. التصور الصحيح للكون، والإنسان، والحياة، وما يثمره هذا التصور من إيمان بالله سبحانه، ومعرفة حقوقه على العباد.
  5. معرفة دور الأمة الحضاري، ومكانتها بين الأمم، فهي الأمة الحاضنة لختام الرسالات، الحاملة لآخر الكتب السماوية، فهي وريثة رسالات الأنبياء -عليهم السلام-، وهي الأمة الشاهدة على الأمم.

إذًا، فالتوازن الثقافي وثيق الصلة بوسطية هذه الأمة، ووثيق الصلة بإحكام شريعتها المنزلة على نبيها  .

شارك هذه المادة
ترك التعليق