من طبيعة النفس الإنسانية أنها لا تعيش إلا ضمن كيانات متنوعة، تنسجم معها، وتتكامل معها، وتتبادل معها الحقوق والواجبات؛ لتتحقق العبودية لله، وعمارة الأرض بما يرضي الله تعالى. في هذه الورقة، سنعرض لهذه الكيانات التربوية، وما يميزها حتى نستطيع توظيفها لتحقيق مقاصد التربية.
أولاً: الكيانات الفطرية:
الكيانات الفطرية، أو الكيانات الطبيعية هي تلك الكيانات التي فُطر الإنسان، وخُلق ليجدها محيطة به بلا تكلف منه في بنائها، أو تجميعها، أو تحفيزها؛ لكونها منسجمة معه بأصل الفطرة. فتجدها متوائمة معه بلا تكلف، متعايشة معه بتلقائية، بل إن مجرد الانعزال عنها، ومحاولة الانفكاك منها يشكل خطراً، وثغرة اجتماعية سيكون لها آثارها على المجتمع.
من ميزات هذه الكيانات:
- أن الرسالة التربوية تنتقل بينها بانسيابية، وتلقائية، وبلا تكلف.
- وأن الرسالة التربوية تصلها في أي وقت، وعلى أي حال، فلا يهددها انقطاع، أو تعثر.
- أنها يُؤرز إليها عند الأزمات، بل تشتد أواصر التعاون بينها كلما صعبت الحياة، وزادت كلفتها.
- أنها قليلة الكلفة المادية، وربما كانت كلفتها صفرية؛ لأنها متقاربة، ومتداخلة بصورة كبيرة، مما يقلل كلفتها المادية.
- كذلك هي بسيطة، وبعيدة عن التعقيدات البيروقراطية، والاشتراطات المؤسسية؛ لوضوح علاقتها الطبيعية، فهي لا تحتاج لتلكم التصاريح، والرخص، والتنظيمات الإدارية؛ لكونها تُفعل العلاقات الاجتماعية التراحمية التكافلية التي تغنيها عن ذلك كله.
ومن هذه الكيانات:
- كيان الأسرة: المكون من الزوج، والزوجة، والأبناء، وهي اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل: 72].
فهذه اللبنة هي مادة المجتمع الأولى، وهي ركنه الذي يُبنى عليه كل مجتمع. كلما كان بناؤه متيناً محكماً، انعكس ذلك على بناء المجتمع وإحكامه. لذلك حرص الأنبياء عليهم السلام على هذا الكيان، دعوة وتعليماً ووصية، لعلمهم أنه الكيان الذي يُبنى عليه غيره، قال الله تعالى: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة: 132].
- كيان العائلة:
المكون من الأسرة الصغيرة مع أسرة الأعمام، والأخوال، والأصهار، وبقية ذوي الأرحام. قال الله تعالى: (وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [النور:61].
إذاً، فالأسرة والعائلة تتجاوز المكون الأسري الصغير لتشمل العائلة الأكبر، لذا كانت لهم هذه الأحكام الخاصة، وشملتهم أحكام المحرمية، وحث النبي ﷺ على صلتهم بقوله: “الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ” (رواه البخاري)، وبيّن أثر صلتهم على العبد بقوله: “مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ عليه رِزْقُهُ، أوْ يُنْسَأَ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.”
- العائلة الكبيرة أو القبيلة:
قال الله تعالى مبيناً مكانة العائلة الكبيرة والقبيلة، والحكمة من وجودها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجر:13]. كما أن النبي ﷺ استثمر هذا المكون، فراسل القبائل، وأكرم زعماءها، وصاهر بعضها، ووظف أصحابه من بعده هذا المكون في الفتوحات.
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة اليمامة: “أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتَى”. فتميزت كل قبيلة في صفوفها، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس. فما كان من القبائل إلا بذل وسعها حتى لا تجلب لنفسها مذمة إتيان العدو من خلالها، وأخبر النبي ﷺ أن هذا المكون القبلي باقٍ إلى قيام الساعة، حينما قال: “أشد أمتي على الدجال بنو تميم”، فأخبر أن المكون القبلي متواجد بمسمياته القديمة، إلا أن بني تميم كان لهم هذا الفضل على غيرهم.
4. الجوار وجماعة المسجد:
وهو كيان فطري طبيعي يتجاوز علاقات النسب، والصهر إلى أهل الجوار.
فقد ذكرهم الله سبحانه ضمن من حث على الإحسان إليهم، في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء:36]. وقال النبي ﷺ: “ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ” (رواه البخاري ومسلم).
هذه هي الكيانات الفطرية الطبيعية التي تصلها رسالتنا التربوية، ونتلقاها من خلالها كذلك، فمن المهم تصورها، وتصور دورها، ومكانتها، وأهميتها في المجتمع.
ثانياً: الكيانات التعليمية:
النوع الثاني من الكيانات الحاملة للرسالة التربوية هي الكيانات التعليمية بمراحلها المتنوعة. غالب وزارات التعليم كان اسمها وزارة التربية والتعليم، إذاً فالمكون، والمضمون التربوي حاضر في بيئاتها التعليمية، ومناهجها التعليمية، وكذلك مخرجاتها التعليمية، من الروضات إلى الجامعات، في جميع التخصصات.
- من ميزات هذا الكيان اجتماع أصحاب المرحلة العمرية الواحدة في أماكن مخصصة، يُوجَّه إليها خطاب يناسب مرحلتهم العمرية، ويراعي احتياجاتهم وما يناسبهم.
- من ميزاتها أيضًا أنها لا تتخلف عن غالب مراحلها أي شريحة من شرائح المجتمع؛ فالرسالة التربوية إذا أُعطيت حقها من الإتقان والإحكام، ستصل إلى غالبية الشريحة المستهدفة من المجتمع.
- مجانيتها تعود إلى الدعم الحكومي الراعي للتعليم، والمطور له؛ فمخرجات هذا الدعم مهمة في معرفة مستويات الدول ومكانتها في العلم والمعرفة، ومن السهولة من خلالها استشراف واقع هذه الدول في هذه المجالات بناءً على مخرجاتها التعليمية.
- ومن أهم مميزاتها أن الكوادر الفاعلة في هذا الكيان هم من أصحاب التخصص الدقيق في التربية؛ فهي ميدانهم الأكثر حضورًا، والأكثر ملاءمة لتخصصاتهم، لذلك هم أقدر الناس على فهم رسالتها، ومضامينها، ونظرياتها.
- ومما يميزها أيضًا طول مدتها على مستوى اليوم وعلى مستوى الأعوام. فالطالب يقضي ثلث يومه على مقاعد الدراسة، ويُمضي زهرة شبابه متنقلًا بين مراحلها.
- ويميزها أكثر أنها تستقبل أبناءنا في سنواتهم الأولى، وهي سنوات التربية المبكرة، التي تعتبر أهم مراحل التربية والتنشئة.
لذلك، ينبغي على كل مربي ومربية، وكل من يسعى لبناء الجيل، أن يعتني بهذا المكون، سواء كان فردًا أو دولة. فبه تتسامى الأمة وتتباهى، وبمخرجاته تتميز عن غيرها.
ثالثاً: الكيانات الوظيفية:
أقصد بالكيانات الوظيفية تلك الكيانات التي تجمع عددًا كبيرًا من العاملين – الموظفين. فاجتماعهم في نفس العمل ونفس المقر يجعلهم كيانًا يستحق توجيه تربية خاصة تليق بهم.
وقد اهتم الباحثون بمثل هذه الشريحة، وألّفوا الكثير من الكتب تحت مسميات؛ مثل: “أخلاقيات العمل”، و”أخلاقيات المهنة”، كما أُقيمت من أجلهم العديد من الأنشطة تحت مسمى “المسؤولية المجتمعية”، التي تستهدف المجتمع بشكل عام، ولكنها في المقام الأول تستهدف مجتمعها المحلي وأسر موظفيها.
المجتمعات والكيانات الوظيفية بكافة أنواعها تُعد كيانًا تربويًا ضخمًا، حتى وإن لم تظهر على السطح ملامح المضامين التربوية الخاصة به.
لكنها تتضح في تفاصيل العملية الوظيفية، من العناية بالموظفين وشؤونهم، وما يحتاجونه من عناية، وتوجيه، وتدريب، وتثقيف. ولا يزال هذا الكيان بحاجة إلى جهود أكبر تُوجّه إليه، حتى يُعتنى به بشكل يليق بضخامته وأهميته، وتنوع شرائحه.
- رابعاً: الكيانات الافتراضية:
في العقود الأخيرة، ومع تطور وسائل الاتصال الحديثة، وطفرة مواقع التواصل الاجتماعي، تشكلت مجتمعات افتراضية عديدة.
تقوم هذه المجتمعات على علاقات الصداقة؛ مثل: فيسبوك، أو علاقات المتابعة مثل تويتر، أو على مشاركة الصور، ومقاطع الفيديو؛ مثل: إنستغرام، ويوتيوب، وتحمل في طياتها مضامين كثيرة مؤثرة على تربية الفرد. ومنها ما تكون العلاقة فيه قائمة على الاتصال الشخصي عبر رقم الهاتف مثل واتساب وتلغرام وشبيهاتها، ومن خلالها تتكون مجموعات افتراضية تضم العديد من الأشخاص من مختلف الأماكن لأغراض متنوعة.
ثم جاءت جائحة كورونا فتحول التواصل الإلكتروني إلى طابع أكثر رسمية عندما اعتمدت عليه الحكومات، والجامعات، ووزارات التعليم العالي، والتعليم العام بشكل أكبر، مما زاد من الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، وأدى إلى زيادة نشاط الكيانات الافتراضية بكافة أشكالها.
ومن ميزات هذا الكيان:
- سرعتها في التفاعل، وسهولة إنشائها، وحيويتها.
- متاحة للجميع نظرًا لتعاملها مع الهواتف الذكية.
- تنوع الوسائط والوسائل المستخدمة فيها، مما يجعلها ذات جاذبية عالية.
- مناسبتها لكل الأعمار، ومختلف الفئات.
- تنوع منطلقاتها، وفلسفاتها مما يجعلها تلبي الكثير من الاحتياجات، والرغبات.
- مجانية في معظمها، فهي قليلة التكلفة، مما يجعلها تصل إلى كافة طبقات المجتمع.
وفي الختام، فرضت هذه الكيانات نفسها على أرض الواقع وأصبحت مؤثرة بشكل كبير جدًا، مما يوجب على المربين والمربيات العناية بها، وفهم فلسفتها، وتعلم أدواتها، واستهدافها ببرامج ومضامين تتناسب معها.
فعلى حامل الرسالة التربوية أن يدرك هذا التنوع في الكيانات، ليتعامل مع كل كيان بما يناسبه من أهداف، ومضامين، ووسائل، حتى نصل إلى النتيجة المبتغاة.
كما أنه من المهم أن يستغل هذه الكيانات للتسويق والاستثمار، إذ أن تنوعها يمثل فرصة، وثراء تربويًا نافعًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
خاص بموقع بانيات بقلم: د. سعد بن دبيجان الشمري (مشرف تربوي، دكتوراه ثقافة إسلامية)
قد يهمك أيضاً: