الحمدلله وبعد:
العملية التربوية: الأساس والمضمون
إن مدار العملية التربوية في أساسها ولُبها يقوم على غرس القيم والمفاهيم وتحسين السلوك والعادات. هذه هي القاعدة الكلية التي تنطلق منها كافة التفاصيل في التربية. فسائر ما يُقال في هذا المجال يدور حول كيفية اكتساب هذه القيم والمفاهيم، ومهارات غرسها، وأساليب تعاهدها واستبقائها، وطرق التعامل مع ما يعارضها، سواء كان ذلك من قِبل المحل القابل “المتربي” أو من خلال مؤثرات خارجية تحيط به “البيئة”.
لو أخذت أي كتاب تربوي قريب منك، يمكنك أن تُرجع كل موضوعاته التفصيلية إلى هذه القضايا الكلية. لذلك، فإن من أشمل التعاريف لمفهوم التربية أنها، كما قال أحد الباحثين:
“عملية نقل المعلومات الذهنية من حيز الإدراك الجامد إلى حيز التطبيق العملي الحي، بصورة متدرجة، ومتأنية، ومتكاملة، ومستمرة، وبطريقة عميقة، وجذرية، ومؤثرة”.
وبناءً على ذلك، فإن كمال المربي يتجلى في كمال ما لديه من مفاهيم قيمية، وسلوكية، وفي كمال قدرته على حُسن تنزيلها، وغرسها؛ وبهذين العنصرين يتفاوت المربون، ويتباين أثرهم في مجتمعاتهم.
إن توضيح القاعدة الكلية في العملية التربوية يدلنا كذلك على أن من الأخطاء المنهجية في بناء المربين القفز إلى تعلم المهارات، والأنشطة التربوية قبل تأصيل المفاهيم، والقيم التربوية. فإن في هذا تقديمًا للوسائل على المقاصد، وانحرافًا لها عن مقصودها، وقد ترتب على ذلك إشكالات متعددة؛ من أبرزها تحول المحاضن التربوية من بيئات تهدف إلى التربية إلى بيئات تصنع الأنشطة الاجتماعية فحسب.
نتيجة لذلك، غاب المضمون التربوي، وضعفت المخرجات التربوية؛ وما هذا إلا لأن المهارات غلبت على المفاهيم، والأنشطة طغت على القيم. ومن الإشكالات الناتجة عن ذلك أيضًا، عدم قدرة المربين على التعامل مع المستجدات التربوية، والمشكلات المعاصرة، واستمرار التراتبية القديمة في العملية التربوية، مع عدم جدواها.
وما ذلك إلا لأن المكتسب الموجود لدى كثير منهم هي الأدوات دون الغايات، والأدوات بطبيعتها رهينة الحالة التي ظهرت فيها. فإن لم تتغير مع تغير التحديات التربوية الجديدة، باتت ضعيفة الأثر باهتة الحضور، وهذا يفسر شيوع حالة التسرب في تلك البيئات، وضعف المخرجات، وسآمة العاملين أصحاب الابتكار والتجديد.
إن من التجديد التربوي الضروري اليوم إحياء الحديث حول القيم، والمفاهيم التربوية، وتحريرها وتأصيلها، ثم فتح الآفاق أمام المربين للإبداع في وسائل إيصال تلك المضامين بحسب قدراتهم وبيئاتهم.
يجب الاستمرار في مراجعة تلك المضامين بشكل مستمر، سواء في حقائقها الموضوعية أو في أولوياتها المصلحية، وذلك لأن الممارسة العملية هي من أفضل وسائل تحرير المفاهيم. فبين التنظير العلمي، والتطبيق العملي علاقة تكاملية، بدون مراعاتها تقع العملية التربوية في داء المثالية المجردة أو داء الواقعية الضيقة.
خاص بموقع بانيات بقلم: د.عبيد الظاهري (دكتوراه في أصول الفقه، مهتم بالبناء الثقافي)
قد يهمك أيضاً: