في ظل التحولات المتسارعة والقيم المتضاربة التي تحاصر أبناءنا من كل اتجاه، لم تعد التربية مجرّد تلقين للمبادئ، بل غدت معركة وعي وهوية.
إن الهوية الدينية ليست عنوانًا ثانويًا في خريطة التربية، بل هي الجذر الذي تُبنى عليه شخصية الطفل المسلم، وهي السور الذي يَحميه إذا ما غابت الرقابة واشتدت الفتن.
ومن رحمة الله، أن جعل في كتابه العزيز قصصًا لا تُروى للعبرة فحسب، بل لبناء الإيمان والتصور والسلوك.
فالقصص القرآني ليس تسلية، بل تربية. وفي ثناياه مفاتيح عظيمة لبناء هوية دينية راسخة وعميقة.
ما الهوية الدينية؟
هي الانتماء العميق لله ولدينه، شعور داخلي يولّد الطاعة والاعتزاز، ويُحدد طريقة التفكير والتفاعل مع العالم.
هي ما يجعل الطفل يختار رضا الله على هوى النفس، ويثبت حين يضعف الجميع، ويقول: “معاذ الله”، لا لأنه خائف من الناس، بل لأنه يعرف ربَّه ويُحبه.
من القصص القرآني: هويتهم كيف بُنيت؟
إبراهيم عليه السلام: التوحيد بداية الهوية
نشأ في بيئةٍ تغلب عليها مظاهر الشرك، حيث الأصنام تُعبد، والتقاليد تُقدَّس. لكن نور الفطرة والتأمل الصادق في ملكوت الله قاده لرفض عبادة الأصنام، ورفض الانصياع لما عليه قومه. لم تكن هويته تابعة للمجتمع، بل قائمة على توحيد الله عن يقين.
قال بكل وضوح: ﴿إني وجَّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين﴾[1].
فهداه الله واصطفاه نبيًا، ليكون مثالًا يُعلّم أبناءنا أن التوحيد هو أعظم ما يُبنى عليه الإنسان، وأن الهوية الإيمانية الحقّة تبدأ من الداخل، لا من ضغط المجتمع، ولا من وراثة العادة.
[1] [الأنعام: 79].
مريم عليها السلام: الطهارة تُورِث الثبات
نشأت في بيئة إيمانية نقية، فغُذّيت روحها منذ الصغر، ونشأت في عبادة وذكر، حتى إذا نزل بها الابتلاء، ثبتت، وصدّقت، وصبرت.
كانت هويتها الإيمانية عميقة وراسخة، فتلقّت الابتلاء بثقة وتسليم، لأنها عرفت الله قبل أن يُطلب منها أن تصبر لأجله.
يوسف عليه السلام: الهوية درع في الغربة
بين فتن القصور وظلمة السجن، ظل يوسف ثابتًا على مبادئه، مُعلنًا انتماءه الواضح: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾[1]، ﴿ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾[2]، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾[3]، لم تكن هويته عبئًا يثقله، بل درعًا يحميه ويهديه، ويُوجّه قراراته في أصعب المواقف.
[1] [يوسف: 23].
[2] [يوسف: 37].
[3] [يوسف: 40].
كيف نبني هذه الهوية في بيوتنا؟
القدوة أولًا:
أنت أول من يُحبِّب الله إلى قلب طفلك بسلوكك، تعاملاتك هي أول درس عملي في معرفة الله لدى أطفالك. فإن رأى فيك الصدق، والرحمة، والاتصال الحقيقي بالله، عرف الله من خلالك، فأحبه وآمن به.
القرآن حيًّا لا محفوظًا فقط: نقرؤه لا لنختمه، بل لنفهمه ونعيشه. نتوقف مع أبناءنا عند القصة، ونسألهم: “ما الذي يريدنا الله أن نتعلمه هنا؟”
الاعتزاز لا الخجل: نُعلّم أبناءنا أن التزامهم بدينهم شرف لا عائق، وأنهم سفراء الله في الأرض، وأن العزة في طاعة الله لا في التشبه بالآخرين.
الحوار لا التلقين: كما سأل إبراهيم ـ عليه السلام ـ قومه، دع أبناءك يسألونك، واصبر على أسئلتهم، وازرع المعرفة بالحب لا بالخوف.
صلة بالله لا مجرد أداء شعائر: قبل أن تطلب من ابنك أن يُصلّي، عرّفه بالله أولًا. أخبره عن الله الذي يُحب، ويهدي، ويغفر، ويحفظ.
الختام
في زمن لا يُشبهنا.. لن نُشبههم ما لم نغرس في نفوسنا ونفوس أبنائنا وعيًا إيمانيًا عميقًا، وهوية دينية راسخة، كالتي ثبت بها إبراهيم ومريم ويوسف ـ عليهم السلام ـ في وجه الفتن، واعتزوا بها وسط التيارات الجارفة.
الهوية ليست فرضًا جامدًا، بل وعيٌ وحبٌ وانتماء. فلنربِّ أبناءنا على معرفة الله ـ عز وجلّ ـ، قبل أن نطالبهم بطاعته، وعلى الاعتزاز بدينهم، قبل أن نخشَى عليهم من الانسلاخ عنه.