الأسرة الفندقية

فريق بانيات
فريق بانيات 1.1k مشاهدات 9 دقيقة للقراءة

في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، لفت انتباهي حديث المؤلف عن الحضارة الحديثة التي تتميز بقضايا التعليم الاجتماعي، ومؤسسات الحضانة للأطفال، ورعاية الكبار. ورغم أن هذا يبدو إيجابيًا في ظاهره، إلا أن هناك قاسمًا قاتمًا مشتركًا بينها، وهو سيطرة نزعة الفردانية، وتقديم الأنا حتى في دور الوالدية، وتزايد “الوسطاء” المشاركين في “صناعة” الأسرة.


في البداية، قد يبدو أن هذه هي النقلة الطبيعية لمواكبة تغيرات العصر، لكن التأمل قد يقلب الصورة تمامًا. هل تقدمت الحضارة بكيان الأسرة أم تقدمت على حسابه؟ وهل يسعى النظام الاجتماعي الحديث لترسيخ بنيان الأسرة وتعزيز الروابط بين أفرادها، أم أنه سبب في تفككها وانفصال أعضائها إلى جزر منعزلة حتى وإن كانوا تحت سقف واحد؟

إن الأسرة ذاتها ليست محط اهتمام النظام الاجتماعي الحديث، إلا بقدر ما تفيد في تعزيز أركان القومية من خلال تكوين مواطنين جدد. ولهذا، نجد مختلف النظم والأنشطة تركز على إنتاج “المواطن الصالح” (The Good Citizen)، بدءًا من ترانيم الصباح في المدارس وصولاً إلى خروج المرأة من “ضيق” المطبخ إلى “سعة” العمل المجتمعي.

فيساهم الجميع بلا استثناء في دفع عجلة المجتمع (وبالأحرى عجلة الرأسمالية)، مدفوعين بحمى التنافس لتحقيق الذات وإثبات الأنا، ومقتنعين بأن البقاء للأقوى، أي الذي يبرز نفسه فوق الآخرين. وبسبب سرعة وتيرة الحياة والحرية الفردانية القصوى، تراجعت معدلات الإقبال على الزواج بسبب ما يتطلبه من “مشاركة” النفس ومساحات الخصوصية. كما زاد عدد الأطفال غير الشرعيين الناتجين عن ليالي التمتع التي تخلو من أي مسؤوليات، مما أدى إلى زيادة عدد “الأسر” المجازية التي غالباً ما تقوم على أحد الوالدين فقط، وغالباً الأم… إلخ.

أصبحت “إدارة البيوت صنعة مهنية” كما يقول بيغوفيتش، فقد تحولت الأسرة إلى فندق يعود إليه أعضاؤها سويعات خلال يومهم لتلبية الشؤون الشخصية العابرة؛ مثل: الأكل، والاستحمام. 
ومع شغل الأب والوظيفة، أضيفت مسؤوليات الأم كذلك عن الأولاد بسبب “مصالح المعاش”، مما أدى إلى الحاجة لإدراج مختلف المؤسسات، والآلات التي تعوض غيابهما في الرعاية والتربية معًا. 


خلقت هذه الفجوات المنزلية من الوظائف ما يفوق ما كان يحلم به النظام الصناعي والرأسمالي، بدءًا من المرضعة، والحاضنة، والطاهية، وشركات النظافة (التي تفرعت إلى تخصصات؛ مثل: غسيل السجاد، والملابس، وتجديد المفروشات، وحتى إعادة ترتيب ديكور المنزل)، وليس انتهاء بالمعلم الخصوصي، والمرشد النفسي، والمستشار الزوجي.

بالإضافة إلى ذلك، تم إتخام المنزل بآلات اللعب واللهو لـ “إلهاء” الطفل أثناء عمل والديه، ووقت عودتهما للراحة، ووقت استعدادهما للخروج للعمل! يظن الوالدان أنهما يفتحان آفاق وليدهما على العالم بإتاحة أحدث التقنيات، وفرش مظاهر الحداثة أمامه، لكن الحقيقة أنهما يفتحان أبواب بيتهما للعالم ليقتحم نفوسًا غضة، ويستعمر أرضًا خصبة، ويغزو عقولًا لمّا يشتدّ عودها بعد.

وتشرّبت المجتمعات العربية كل سوءات الأسرة النووية الأجنبية، فكثر الانفصام عن “بيت العيلة” وتحولت إلى شقق صغيرة، وانحصرت أواصر الرحم في تبادل قوالب التهنئة الجاهزة (حتى الزيارات الموسمية تراجعت). والأدهى أن الأمهات اللواتي هنّ مصابيح البيوت انخدعن بموجات النسوية، وأوهام تحقيق الذات، فـ”ألحق الحضارة الخزي بالأمهات بصفة خاصة.

كما يعبر بيغوفيتش، أي بدور الأمومة ومسؤولياته. فـ”ربّة البيت” أصبحت وصمة عار اجتماعية ومهنية تدل على تخلف صاحبتها، وتقصيرها في العطاء المجتمعي! الحضارة تفضل المرأة التي تحترف البيزنيس، أو الموديل، أو معلمة لأطفال الآخرين، أو سكرتيرة، أو عاملة نظافة… المهم أن تحترف أي شيء إلا أن تكون أمًّا، وإذا صارت أمًّا، فإن هذا دور ثانوي لا يصحّ ولا يكفي تعريفًا لها!

وهكذا، اندثر نموذج الأمومة المتفرغة لإعداد الأجيال طيبة الأعراق، وحلّ محلّه نموذج الأم “العاملة”، أي “الموظفة” التي تعطي أبناءها فضول أوقاتها، ثم تشكو، عندما يحين وقت المراهقة، أن أبناءها جزر منعزلة، لا تعرف كيف تصل إليهم، وأنهم يتمردون عليها أو لا يستمعون لها.

وفي اقتباس بديع لبيغوفيتش يقارن فيه بين بيوت المسنين والحضانات…

بيوت المسنين وبيوت الأطفال تذكّرنا بالميلاد والموت الصناعيين كلاهما تتوفر فيه الراحة، وينعدم فيهما الحب والدفء، وكلاهما مضاد للأسرة، وهما نتيجة للدور المتغيّر للمرأة في الحياة الإنسانية، وبينهما ملمح مشترك هو زوال العلاقة الأبوية؛ ففي الحضانة أطفال بلا آباء، وفي دور المسنين آباء بلا أطفال. وكلاهما المُنتج «الرائع» للحضارة والمُثل العليا للتحرر الفردي والتقدم الصناعي” ا. هــ.

“والحلول المطروحة لتقويم هذا الاعوجاج كثيرة، بحسب عوامل متباينة، وفي مقام التوصية للمربيات والأمهات، خاصةً لإقامة جسور صلة طيبة مع الفتيات في سن المراهقة، أول ما يوضع في الاعتبار هو أن لفظة “المراهقة” من المصطلحات المستوردة، وتصوّرها على الشاكلة الأجنبية ليس له أصل في ثقافة العربية ولا الإسلام؛ فهي تفيد عندهم سنّ اللاأدريّة، واللاهدف في الحياة، مع نوبات غضب وفورات مزاجية وميوعة، مهما يكن لها سند من التغيّرات الهرمونية الطارئة، فهي متأثرة كذلك بأنماط حياة وتربية غير رشيدة ابتداء.

والتسمية الصائبة هي سنّ الفتوّة، وحرارة الشباب. وتأملي، أيتها المربية، في مقولة سيدنا عمر عليه الرضوان: “لا يمنعنّ أحدَكُم حداثة سنّه أن يُشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقِدَمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء. ” إذ هو دليل على التصور السائد آنذاك أن حداثة السن ليست مانعة من حيازة الفضائل وتحمل المسؤولية، بل الدافعة إليه، مثل “فتية” أهل الكهف، وسيدنا يحيى عليه السلام الذي قال الله عنه: {وآتيناه الحُكْمَ صَبِيّا}، وأسامة بن زيد عليه الرضوان الذي أسندت له قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر عليهما الرضوان.

 وعليه، تدرك المربية أن هذا ليس سن “الإعفاء” المطلق من المؤاخذات، وكذلك ليس سنّ تتبّعها بدقة تحبس أنفاس الناشئة عن النشأة الطبيعية! بل لتكن وسطًا، إذ هو سنّ تشكيل الشخصية بالحزم واللين، وخير تطبيق له شعرة معاوية: ” لو أنَّ بيني وبينَ النَّاسِ شَعرةً ما انقَطَعَت! قيل: وكيف؟! قال: لأنَّهم إن مَدُّوها خَلَّيْتُها، وإن خَلَّوا مدَدْتُها”. ومثله ما جاء عن عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه إذ قال لزوجتِه: “إذا غَضِبتُ فـرَضِّيني، وإذا غَضِبْتِ رَضَّيتُكِ، فإذا لم نكُنْ هكذا ما أسرَعَ ما نفتَرِقُ!”.


وخير معين على تحقيق هذا الاعتدال وهذه الحكمة، هو تغليب الحوار، والاستماع على نهج توجيه الأوامر، والنواهي من طرف واحد. فهذا السنّ أشد ما تكون فيه الفتاة حاجةً لمشاركة دواخلها، والتعبير عن حيرتها، وهي بذلك تطلب التوجيه بصورة غير مباشرة. 

ويمكن افتتاح جسور الحوار هذه بجلسة عائلية، أو حتى جلسة شخصية بين الأم وابنتها، تحكي كلٌّ عن يومها، ومواقف مرّت بها، ومشاعرها، مع استحضار الآيات، والأحاديث، والسِّيَر الموافقة للسياق؛ مثل هذه المجالس الدورية هي المدخل العملي لتعويد الفتاة على ملكة التدبر، ومنهجية التمحيص السليم فيما تعايشه.

وأكثر الأسباب التي وقفت عليها من تجربتي التي تبعد الفتيات في هذا السن عن الوالدة بالذات، هو شعور الواحدة منهن بوجود حاجز يمنع أمها من تفهّمها؛ إما لأن الأم غير راغبة أو غير مهتمة بمسألة “الفهم”، إذ تراها “دراميّة” أنثوية فاضلة عن الحاجة، أو لأن طباع الأم عصبية ميّالة للانفعال والصياح. 

والسبب الثاني هو استعمال مادة البوح في السرّ للمعايرة اللاحقة على الملأ، أو الإسراع بإخطار أهل البيت بالمكنون الذي ائتُمِنَت عليه، وكلها تصرّفات تدل على عدم نضج شخصية الوالدة نفسها، وحاجتها هي نفسها للتأييد، واستشعار الأهمية من أهل بيتها، فتكون هذه الأسرار بمثابة كروت التهديد، فهل من عجب بعد ذلك ألا تملأ شخصية الأم عين ابنتها كفاية لتأتمنها على نفسها، وتتخذها صاحبة؟ فما نفع صحبة من لا يصلح دليلًا في الطريق، ولا مؤتمنًا على سرّ، ولا مشاركًا لحمل، بل هو عبء يُضاف للمتاع!

ختامًا، لا يتم لمربٍّ القيام بواجبه التربوي بمجرد الشطب على “مهمة” قضاء وقت مع الأسرة بالساعات، أو الدقائق (خاصة إذا كانت مجرد التحلّق حول فيلم عامر بالمخالفات والآفات، أو توجيه أوامر التنظيف والترتيب!)، ولا بمجرد التواجد المنزلي بالأوامر، والنواهي العامة، ثم الانعزال في ركن للعبث بالهاتف بعد الاطمئنان لانشغال كلٍّ بآلة. 

إن التربية جهاد كل زمان، وهي آكَد ما تكون في هذا الزمان، حيث المعركة تكمن في قناعات تُزرع، لا مجرد أجهزة تُنزع.

خاص بموقع بانيات د.هدى عبدالرحمن النمر (حاصلة على ليسانس ألسن قسم اللغة الإنجليزية، مستشارة تربوية ومقدمة دورات تدريبية تربوية)

قد يهمك أيضاً:

بين الأمومة والوظيفة.

شارك هذه المادة
ترك التعليق