الموقف التربوي في التعامل مع المخالفين دينياً

فريق بانيات
فريق بانيات 25 مشاهدات 11 دقيقة للقراءة

د.فؤاد بن سعد العمري

يقود الإعلام، وتكنولوجيا المعلومات فرض ثقافة العولمة، بمنظومات قيمية تعلي ما هو غريزي، وتختزل فيه الوجود الإنساني، ويعزز ذلك خلو المضامين الإعلامية من أي قيم توجيهية سامية، واستنادها إلى قيم مادية لا تأبه بحاجات الإنسان الروحية، وهمته في الارتقاء الأخلاقي؛ بل تنخرط في النسق القيمي التجاري والإعلاني، حيث تروج ثقافة الصورة وعالم الرغبة واللذة والإثارة.

لم نكن في يوم من الأيام أكثر انتماءً للعالم مما نحن عليه اليوم، فقد ألغت وسائل الاتصال ومنصاته، والعولمة بأدواتها الجبارة الحدود بين ما نسميه داخل البلاد وخارجها؛ فالعولمة تعولم الأشياء، الأفكار، التطلعات، الأذواق، والمعايير، بل وحتى المشكلات وأنماط الانحطاط.

ونتج عن ذلك انتزاع مركزية التربية الدينية، والتنشئة الاجتماعية من الأسرة، التي تتآكل منظومتها القيمية بفعل الاختراق الثقافي بأدوات العولمة، مما يعيد تعديل المكانات والأدوار، وينشر حالة من الاستباحة، والتسيب القيمي والسلوكي. 

وتحولت البنيات الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، المسجد، الحي، الإعلام) لتحدث هوة عميقة بين وظيفتها في الأمس واليوم، مما أدى إلى تهاوي السلطة الأبوية للوالدين، وفتح هذا الفراغ الباب أمام التمثل الجانح لفردية الأبناء واستقلاليتهم، وتأثرهم بالمفاهيم المشوهة للحرية ولتقدير الذات.

وفي هذا السياق، تتعزز التبعية والإعجاب بكل ما هو أجنبي، بما في ذلك رموز الفن، والتمثيل، والرياضة وغيرها، ففي المساحة الواسعة على شاشات الإعلام، يشاهد أبناؤنا رموزاً جعلتهم هذه الوسائط نجوماً في مجالات متعددة ضمن اهتمامات، وشغف الأطفال والمراهقين.

لم ينجُ منها حتى الكرتون (الأنمي، المانجا)، فيغرس في وجدان الأبناء طيف واسع من الأبطال الذين يستمدون منهم سمات هوية مستعارة تشكل وعيهم ومخيلتهم للصفات المثالية. 

ومن ثم، يترسب في اللاوعي كل المضامين المنبعثة من سلوك هؤلاء الأبطال على الشاشة، بدءًا من الخلفية العقائدية التي تدل عليها الرموز، والطقوس الوثنية، أو الشعارات الدالة على الأديان المحرفة، أو حتى الانحطاط الأخلاقي، والسفول الحيواني الذي لا يستحون منه.

كما أن هؤلاء النجوم يأخذون هالة الأسطورة أمام معجبيهم بحسب كاريزميتهم الإعلامية. فتظهر سمة الأسطورة في مخيلة الأبناء كأنهم شخصيات فوق إنسانية، تماماً كالشعور تجاه البطل الخارق أو (الآلهة). 

فالنجم يضخ في نفوس متابعيه جزءًا من جوهره البطولي، أي المؤله والمؤسطر، ويحصل على الحب الذي هو أسطورة تأليهية، ويتجه نحوه الجمهور ببعض نزعات العبودية التي تظهر في الاندماج، والتماهي التام مع النجم، وما أكثر ما يوصف النجم بـ (معبود الجماهير).

لذا لا بد أن يتنبه المربون إلى الآثار غير المباشرة التي تنتهي إلى الجانب الاعتقادي والشرعي؛ مثل سلم الأولويات القيمية التي تنبعث من نموذج النجم، والتي تظهر العلمانية تجاه علاقة الدين بالحياة. 

فمن خلال نموذجه المُعاش تتعزز وظيفة فصم القيم ونبذها، فيتحول الشاب إلى ذرات متناثرة تتحرك بلا هدف ولا غاية، ومن نظام حياة النجم وميوله تنتقل أولوياته للمتابعين المتأثرين. ومن ذلك تقزيم التدين في الوجدان والنشاط اليومي، وإحالته إلى شيء هامشي لا يشغل إلا مكاناً محدوداً، وفي أضيق نطاق ممكن، فلا يكون له أي تأثير حقيقي على نواحي الحياة، ومن ثم يستحيل الدين إلى مجرد ممارسة عملية، ومحض عادة، إن لم يكن ضرباً من الروتين.

يمتد الأثر إلى الحيوانية الأخلاقية، حيث تتحول فضائح الحياة الخاصة للنجوم إلى شيء مسلٍّ؛ بل إن ما كان معيبًا ومخزيًا مع كثرة العرض يصبح مبتذلاً، ومن ثم تتلاشى حالة النفور الأخلاقي منه، ويصبح مجرد عرض يوميات شخصية خاصة لا يتدخل فيها أي معيار أخلاقي، وتغدو أخص خصوصياتهم وكأنها جزء من رقعة الحياة العامة.

أمام كل ذلك، لا بد أن تكون المعالجة متسمة بالشمول والتكامل، مع مراعاة الربط بين ظروف المشكلة وجذورها وكذلك البيئة الثقافية الحاضنة، والتي قد يكون وضعها في إطار الحل أهم من معالجة الظاهرة ذاتها في بعدها الاعتقادي والفكري.

من المهم أن ندرك مدى ارتباط ضعف شعيرة الولاء والبراء بضعف عبودية الناس لله ومحبتهم له؛ فهذه القيم فرع عن محبة الله التي هي الأصل، ولما غلب على الناس التعلق بالشهوات وأشربوا حب الهوى، صاروا يوالون ويوادون حسب أهوائهم وعقولهم المعيشية، فزاحمت تلك المحبوبات عبودية الله تعالى ومحبته.

حيث يستقبل أبناؤنا تيار الثقافة الجارف بخضوع ذهني لمعايير وأحكام هذه الثقافات الوافدة، يقابله انتماء بارد لإسلامهم، لا يظهر منه إلا ارتباط عاطفي واهن، مفرغ من الحقائق الفكرية والروحية الراسخة.

ولذلك، فإن إعادة الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية تعد من الأدوات الوسائلية الضرورية لمعالجة هذه الظاهرة. 

فمن خلال التنشئة الاجتماعية، تنقل المجتمعات المعرفة، والأعراف، والقيم عبر الأجيال؛ فهي عملية قوية خاصة في المراحل الأولى، عندما يتعلم الأطفال السيطرة على النزوات وإنشاء مفهوم الذات.

التنشئة الاجتماعية من أقوى المؤثرات على الإنسان، وزمامها بيد الوالدين؛ لأنها أسبقها إلى نفسه، ومن ثمّ فهي أرسخها. 

فهي ليست إلا رعاية الفطرة في النفس وتعاهدها؛ فعوامل الخلقة الربانية قد أودعت في ذات الإنسان أساس شخصيته، المتمثلة في أفكاره، ونزعاته السامية، فتنمو في الإنسان شخصيته الفطرية بتأثير عوامل التنشئة الاجتماعية، وتبلغ بها درجات راقية، أو تنحرف بها وتمسخها أحيانًا.

كما يقول علي عزت بيجوفيتش: “إن كل تنشئة حقيقية هي في جوهرها تنشئة ذاتية، وهدفها ليس تغيير الإنسان، فهو ينشأ على أصل الفطرة، وإنما هي تحفز فيه قوى جوانية دافعة من الخبرات لمنع المؤثرات المفسدة لنفسه، وتحدث قرارًا جوانيًّا لصالح الخير عن طريق المثل الصالح، والنصيحة والمشاهدة”. 

فالتنشئة تحدث تأثيرًا لطيفًا لا يمكن قياسه، إنها فاعلية غير مباشرة تدخل القلب، عن طريق الحب، والقدوة، والتسامح، والعقاب، بقصد إحداث نشاط جواني داخل الإنسان.

ولابد للمربين من الاهتمام بتكوين المفاهيم، والعمل على تعليم الأبناء كيف يصوغون المفاهيم الجيدة بأنفسهم. 

وقد وجدت هذه المسألة إهمالاً من الوالدين، ربما لأنها تتطلب قدراً من الصبر، والإتقان، والدقة، ومستوى من التفتح الذهني ورحابة الأفق. 

لذا، لا بد من فتح النقاش مع الأبناء، وإلقاء الأسئلة عليهم ببراعة، وحسن تلقيها منهم، لإنضاج المفاهيم الأساسية، وترسيخها في عقولهم.

ومن المهم أن يعلم الوالدان أن القاعدة العقدية هي التي تشكل البنية العميقة لبناء التصورات، والمفاهيم، وتكوين الثقافة. 

فمن أولويات التنشئة التربوية العمل على تمتين هذه القاعدة لتؤسس للبناء الثقافي الصلب، وذلك بسقيه زلال المعارف، والمفاهيم المتعلقة بالتصورات، والمعتقدات الأساسية منذ الصغر.

إنّ الإيمان بالله هو أول قيمة ينبغي أن يهتم بها أولياء التربية، فهي القاعدة العظمى لتكوين الإطار المرجعي، لكل الأخلاق والقيم الأخرى. 

يجب ترسيخ الإيمان “الحي”، ليس بوصفه قناعات عقلية فحسب، ولكن بوصفه مشاعر وأحاسيس بمراقبة الله، والخضوع والاستسلام له، وبذلك يكون مصدراً لابتهاج الروح، ومقاومة تيار الشهوات والأفكار الجارف.

ومع ذلك، فلا ينبغي إهمال القناعات العقلية، بل يجب أن ترتقي من قناعات باردة إلى بناء الإيمان على قواعد فكرية معمّقة. 

ولأنه كثيراً ما يتكرر في القرآن الكريم وصفه بأنه بيان لأولي الألباب وللذين يتفكرون، فلا يكفي للتنشئة العقدية الوالدية الاتكال على طاعة ربانية دون تفكير، ولا على حماسة وانتماء عاطفي لا يصمد تجاه الأسئلة المحيرة في هذا العصر، فتيار الأفكار المصاحب لسلوك نجوم العصر هادم للإيمان بطبيعة الحالة الثقافية.

يتصل بذلك تعميق محركات القلوب إلى الله؛ لتملأ فراغ قلوب أبنائنا، وتلبي حاجتهم إلى الحب والتعلق بأوصاف الكمال، وتمنعهم من السير في السبل المخالفة. 

هذه المحركات تبعث في وجدان الأبناء روحاً وجمالاً، وتغرس أثرها العميق في نفوسهم.

من محركات القلوب إلى الله:

– المحرك الأول: محبة الله تعالى، فالمحبة من أعظم ما يحرك القلوب للاستقامة. فهي أصل كل حركة في الوجود كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فالمحبة، والإرادة أصل في وجود البغض والكراهة؛ لأن المحب لشيء لابد أن يبغض ما يناقضه، فلا يوجد البغض إلا لمحبة ولا يزول البغيض إلا لمحبة.

– المحرك الثاني: الخوف من الله، فيتربى الأبناء وتتغذى قلوبهم على مشاعر الخوف من الله، القائم على تعظيمه وإجلاله، واستحضار عاقبة المرجع إليه.

– المحرك الثالث: الرجاء من الله، الذي يورثه أمل الأبناء في رحمة الله، وحسن موعوده.

المرتقى الأكمل في ذلك هو تحويل المعتقد إلى واقع حياة يُتمثَل في مختلف مناحي السلوك. فالتوحيد، وشهادته ليست مجرد عقيدة ذهنية، بل هي ممارسة ونظام حياة. 

فحقيقة التوحيد أمر يجب فهمه والعيش به، فالاعتقاد الإيماني هو طريقة ينظم الإنسان بها حياته كلها.

من الضروري بناء تعظيم الله في نفوس الأبناء، من خلال تعريفهم بأسماء الله وصفاته. فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب في القلب، كما قال ابن القيم: “أعرف الناس به أشدهم تعظيماً وإجلالاً”، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة. لذلك، يجب أن نملأ قلوب أبنائنا بعظمة الله وعظمة شعائره وأوامره؛ ليتجرعوا حب الله، وتعظيمه بالصفات البالغة من غايات الكمال، والجلال، والشرف، والعلو، ما يقطع جميع العلائق، والصوارف، والآفات.

بناءً على ذلك، لا مناص من بناء مبررات عقلية عند الأبناء لموالاة الله، وأوليائه، ومعاداة أعدائه. 

فيفهم الأبناء أننا نعادي الكفار لأنهم أعداء الله كما قال جل شأنه:  

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ .. الآية﴾ [الممتحنة: 1]. وإذا كانت الولاية أصلها المحبة، فإن من مقتضى التوحيد، والإيمان عدم محبة من لا يحبه الله تعالى؛ كما يتم إفهامهم أن موالاة الكافرين قد تدل على الرضا بما هم عليه من الكفر، أو تؤدي إلى ذلك. 

وهذا يتنافى مع الرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ فأهل الإيمان لا يرضون ما لا يرضاه الله، ولا يحبون من يتبع ما يسخط الله. 

ومما يجب إيضاحه لهم أن مقتضى الموالاة هو المحبة، الركون، التأييد، والإقرار بما هم عليه ظاهراً وباطناً، وهذا لا يجوز من المؤمن لأنه يتعارض مع تحقيق الإيمان والتوحيد.

من الضروري ملء فراغ الحاجة للاقتداء، والمحاكاة للعظماء في نفوس أبنائنا، مما يسد فجوة يتسرب منها إعجابهم بالرموز المخالفة للدين والمعتقد، فلا بد من ملء هذه الفجوة بعرض سير العظماء الحقيقيين والجديرين بالعظمة؛ مثل سيرة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وصحابته، ومن نهج مسيرتهم الجليلة عبر التاريخ، فيربطون بسير هؤلاء الرجال النوابغ الذين يملكون إيماناً قوياً، وسمواً روحياً فائقاً، ونزاهة عن أغراض النفوس، وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في المبادئ والعقيدة، إلى الدرجة التي تجعل أبناءنا يعيشون أجواء حياتهم، ويستلهمون منهم الأثر العميق في عواطفهم، وتفكيرهم، وتصوراتهم. 

حين يمتلئ وجدانهم بأولئك، يخرج منه ما عداه، وتتحقق قاعدة “البقاء للأصلح” وليس للأنفع.

شارك هذه المادة
ترك التعليق