أبنائي العالميون

فريق بانيات
فريق بانيات 42 مشاهدات 5 دقيقة للقراءة

د.عبد الله الطارقي

باحث في شؤون الطفولة والشباب

ربما لم يتقارب العالم في تاريخه المدون كما تقارب شرقه وغربه اليوم بفعل الإعلام والتقنية. قبل هذه التقنيات، استطاع الناس تأخير وصول خبر موت نابليون إلى باريس لعدة أيام، كما نجحوا أيضًا في تأخير وصول خبر موت المهدي بن تومرت إلى فاس لمدة مماثلة. “1

لكننا اليوم، بفعل التقنيات المعاصرة وأجيالها المتتابعة، أصبح تأخير مثل تلك الأخبار أشد صعوبة من ذي قبل. هذه الأدوات العصرية أوصلت الناس إلى حال يذكّر بقول الله تعالى: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) (يونس: 25). والحق أن لله سننًا تحكم حركة البشر في القديم والحديث؛ فمن أخذ بها وقاه الله شر ما مكروا، وأنجاه إلى ربوة الفضيلة مهما نشروا من رذيلة، ولو باتت تُشم عبر الأنفاس.


التقنيات وتهديد الهويات

إن ذلك التقارب المشار إليه آنفًا يعني حصول تقارب العالم في خيره وشره، وصلاحه وفساده، واستقامته وضلاله. 

وهي صورة مؤرقة للمربين والمربيات -بطبيعة الحال- لأن تغوّل تلك التقنيات يحمل شرورًا واضحات، وصورًا فاضحات، ومعاني تهدد الأفكار، والمعتقدات قبل الأفعال والسلوكيات.

وها هي أجيال الذكاء الاصطناعي بدأت تبعث نذرًا بخروجها عن سيطرة بني الإنسان، لتعبث عبثًا متهورًا يهدد القيم والهويات وسائر معاني الإنسانية.2

والأمر حين يبلغ مداه ويصبح مهددًا للهويات بالذوبان في أتون الهويات المهيمنة، يثير حفيظة ذوي الرأي الرشيد والفكر السديد. 

ولا ننسى عشية بدء البث الفضائي الأمريكي عالميًا كيف تحدث الرئيس الفرنسي آنذاك متخوفًا على أخلاق الناشئين الفرنسيين من البث الفضائي الأمريكي. 

ومن قبله، خشي عالم النفس هانز آيزنك على الشباب والشابات الأوروبيين من تأثير العلوم النفسية الأمريكية التي تُدرَّس في الجامعات الأوروبية.

ولهذا السبب، تمسكت جمهورية الصين بمجالها الفضائي، ولم تستجب لكل الضغوط الغربية، فلم يعمل محرك البحث جوجل ولا شبكاته الاجتماعية في الصين، كل ذلك حدبًا على هوية أطفالها وشبابها وحفاظًا على ثقافتهم المتفردة.3

المربيات وهويات الأجيال

ومع عظم التحدي الذي ألقى بأبنائنا في أتون العالمية بمجرد وقوع جهاز الجوال أو الآيباد في أيديهم، لا بد لنا من الوقوف أمام معلم مهم لمواجهة هذه العقبة الكأداء، والمهمة العويصة. 

فقبل أن نوجه إشاراتنا للمربين والمربيات حول مسؤوليتهم تجاه الناشئة، وهويتهم في ظل عالمية وعولمة التقنيات، ينبغي أن نشير إلى هذا المعلم الأهم في مواجهة كل تلك التحديات.

وهو أنه كلما عظمت عناية المربي بتزكية ذاته وزيادة إيمانه، كلما سهل عليه مواجهة مهامه وأداء رسالته. ألم ترَ أن الله خاطب نبيه بقيام الليل استعدادًا لمهمته الرسالية: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 1-5).

ثلاث إشارات للمربيات

ألتمس من القارئة الكريمة أن نتقاسم هذه الإشارات الثلاث:

  • الإشارة الأولى: لابد أن يصح النظر قبل العمل؛ وذلك بالوعي التام، المتجاوز للاجتهاد غير المبني على علم. ففي هذه الحالة، لابد أن تعرفي عمّا تنافحين؛ فإن كانت غيرتك على هوية الأجيال، فأصل الهوية يعود إلى ما يميز الإنسان عن غيره. ولهذا قال الإمام أبو محمد ابن حزم: “وَحَدُّ الهُوِيَّة هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه، إذ ليس بين الهُوِيَّة والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتَّة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر4
  • الإشارة الثانية: الأصل في مباني الإنسان يبدأ مع اجتنانه، إذ تنمو نموًا خفيًّا متدرجًا، لكنها بعد الميلاد تتشخص. وكذلك المعاني، منذ الصبا، يولد بها المرء كما صحّ لنا في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة). وتلك عطية إلهية للمربين؛ فمن التقط خيط فطرته وصانه في صباه، لم نخشَ عليه من غائلة بعد يفاعه أو عند بزوغ شبابه. فلم تجنِ الأجيال أسوأ من التقصير في طفولتهم وتحصين فطرهم وصيانتها بالوحي! ذلك الأمر الذي لو أحسناه، لما خشينا عليهم من أي بث فضائي ولا من أي تقنية متطورة.
  • الإشارة الثالثة: إن أوجب الواجبات في حقنا معاشر المربين والمربيات العمل على مقومات الهوية الإسلامية ومكوناتها الأساسية، عبر مراحل عمر الناشئ فإذا كانت مكونات الهوية الإسلامية هي: الإسلام، واللغة العربية، والتراث المستنبط من الوحي أو الخادم له، التاريخ الأرض5 والوطن، ومعالم ذلك تتجلى في أننا مع الطفولة -كما أسلفنا- نعمل على تحصين الفطرة من كل شائبة. ثم بعد السابعة، عند دخول سن التمييز، نعمل على تعليم الناشئ وتلقينه وفق تلك المقومات الخمس. ومع المراهقة، بين العاشرة والخامسة عشرة، نركز على تدريبه وتمهيره وفق نفس المقومات. وحين يبلغ سن الشباب، نكلفه بالمهام وفق تلك المقومات الخمس.

والظن أننا حين نأخذ زمام المبادرة عبر هذا النظام العمري المسطر في نصوص الوحي وعلوم الشريعة، لابد أننا سنحافظ على هوية أبنائنا ونقيهم غوائل العصر في تقنياته وعولمته، والله أعلم.

  1. https://www.bing.com/videos/riverview/relatedvideo ↩︎
  2. https://technologyreview.ae ↩︎
  3. https://www.youm7.com/story/2020/ ↩︎
  4. الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الظاهري: (2/107) مكتبة الخانجي، القاهرة مصر. ↩︎
  5. انظر: نظرات في مستقبل الهُوِيَّة الإسلامية، في ظل منظومة العولمة، الشاهد البوشيخي، 2006، ص14 ↩︎

شارك هذه المادة
ترك التعليق